مــدخل لعلــم الاجتمــاع:

مــدخل لعلــم الاجتمــاع:
                                                                  - دغبوج وليد- أستاذ مساعد قسم -ب- جامعة باجي مختار عنابة
 ماهية علم الاجتماع:
... ما الذي يقوم بـه عالم الاجتماع؟ لمـــاذا ندرس علم الاجتماع؟ نشـــأة علـــم الاجتماع سيــاق الأحـــداث السيــاق الأيديولوجـي الـــمــؤسســــون أوغسـت كــونت (1798-1857) أليكسيس دو توكفيل (1805-1859) كـــارل ماركس (1818-1883) ماهية علم الاجتماع... ما الذي يقوم به عالم الاجتماع؟ إذا ما حاولنا تقديم تعريف مبسط لعلم الاجتماع، فبالإمكان القول أنه "علم دراسـة المجتمع". إنه تعريف على بساطته يحتاج إلى تعريف له. مشكلة هذا التعريف أنه يحتاج إلى تعاريف أخرى تحدد ماهية المجتمع وما الذي نعنيه بالدراسة "السوسيولوجية" للمجتمع. نفس الأمر يمكن أن يقال على تعاريف أخرى لعلم الاجتماع، مثل: علم الاجتماع يدرس الظواهر الاجتماعية، السلوكات الاجتماعية، التفاعلات الاجتماعية، الحياة في المجتمع، .....إلخ. علم الاجتماع وبقية العلوم الاجتماعية (الاقتصاد، علم السياسة، الأنثروبولوجيا، علم النفس...) يشتركون في موضوع واحد للدراسة والبحث، والذي هو المجتمع والإنسان. لكن ما يميز علم الاجتماع عن بقية العلوم الاجتماعية هو مقاربته وطريقة تناوله لموضوع الدراسة هذا. إنـه يأخذ من كل العلوم الاجتماعية قصد تكوين تصور ورؤية شاملين حول ما يدرس. إن الباحث في علم الاقتصاد يدرس الاقتصاد (جزء) في المجتمع (الكل)، والباحث في علم السياسة يدرس السياسة (الجزء) في المجتمع (الكل)، أما الأنثروبولوجي فيدرس الثقافة (الجزء) في المجتمع (الكل)، وعلى نفس المنوال يقوم عالم النفس، عالم التربية والمؤرخ بدراسة أجزاء معينة (شخصية الإنسان، التربية والمدرسة، الأحداث والوقائع الماضية) من الكل الذي هو المجتمع والحياة الاجتماعية. الباحث في علم الاجتماع -وعلى خلاف البقية- موضوع دراسته هو الكُـل أي المجتمع. إذن فمجال الدراسة لديه يشمل: الاقتصادي والسياسي والثقافي والنفسي والتربوي والتاريخي...الخ، أي يشمل كل ما يحصل في المجتمع. علم الاجتماع كمشروع معرفي هو مشروع مذهل وشديد التعقيد، كون أن موضوعه الأساسي هو سلوكاتنا وأفعالنا ككائنات اجتماعية. ومن هنا فإن نطاق القابل للدراسة فيه يتسم بالاتساع الكبير والتنوع، إذ يبدأ من تفاصيل حياتنا اليومية (الأحاديث واللقاءات العابرة بين الناس) إلى أن يصل لدراسة الآليات الاجتماعية العالمية (العولمـة وحوار الثقافات). إن معطيات حياتنا اليومية في المجتمع تتأثر تأثرا كبيرا بوقائع اقتصادية سياسية ثقافية نفسية وتاريخية. لذا فإن فهم هذه المعطيات الحياتية الخاصة بكل من الأفراد والجماعات، لا بد وأن يمر عبر فهم وتحليل للسياقات الكبرى (الاقتصادية، التاريخية، السياسية، الثقافية، الدينية...) التي تجري داخل المجتمع. هذا هو جوهر الدراسة السوسيولوجية. التفكير بطريقة سوسيولوجية، هو تبني لمقاربة تتسم بالاتساع والشمولية, نظرة تتضمن كافة أبعاد الواقع الاجتماعي. على عالم الاجتماع أن يكون قادرا على التحرر من الظروف الشخصية و أن يضع الأمور في سياق أوسع. إنه ارتقاء من نظرة شخصية تنظر في نفس الاتجاه ومن زاوية واحدة، إلى نظرة أوسع تشمل كل اتجاهات وزوايا الظاهرة المدروسة. إن التفكير السوسيولوجي في جانب كبير منه يعتمد على إعمال "الخيال السوسيولوجي". الخيال السوسيولوجي يتطلب في المقام الأول أن ننأى بأنفسنا عن المجريات الروتينية، ليتسنى لنا إلقاء نظرة جديدة عليها. أنظـر على سبيل المثال إلى تناولنا فنجانا من القهوة، ما الذي يمكننا قوله عن هذا الموقف من ناحية علم الاجتماع؟ عن هذا الموقف الذي لا يبدو في الظاهر مثيرا للاهتمام بوسعنا قول الكثير في واقع الأمر. أولا، يمكننا أن نشير إلى أن القهوة ليست مجرد شراب منعش أو منبه، بل إن لها قيمة رمزية باعتبارها جزءا من أنشطتنا الاجتماعية اليومية، والطقوس التي تصاحب احتساء القهوة أهم من استهلاكنا لها. فنجان القهوة هو علامة فارقة في الروتين اليومي. احتساء القهوة كما تناول الطعام هو مناسبة للتفاعل الاجتماعي وممارسة الطقوس. ثانيا، القهوة من العقاقير. فهي تحتوي على الكافيين الذي يحفز الدماغ، لذا نجد الكثير من الناس يحرصون على احتساء القهوة سعيا وراء جرعة يومية من هذا المنبه (الكافيين)، وتعاطي القهوة يؤدي إلى تعود الجسم عليها، بتعبير آخر يؤدي إلى الإدمان عليها. محتسي القهوة هو إذن مدمن!! لكن رغم هذا أكثر الناس لا يعتبرون من يتعاط القهوة مدمنا، في حين أنهم يعتبرون الذي يتعاط عقاقير أخرى (المخدرات) مدمنا. إنها مفارقــة. يهتم عالم الاجتماع بدراستها للإحاطة بمعانيها: هل الإدمان مفهوم طبي أم اجتماعي؟ ما هي المعايير التي تجعل من عقار ما مخدرا؟ هل هي معايير واعتبارات طبية أو اجتماعية، أم الاثنين معا؟ ... إلحاح مثل هذه الأسئلة وأهميتها يتزايد إذا ما عرفنا مثلا، أن بعض المجتمعات تتساهل وتتسامح مع استهلاك الكوكايين أو الماريخوانا، كما هو الحال مع بعض الطوائف الدينية في الهند أو في جامايكا. ثالثا، الشخص الذي يتناول القهوة يدخل في شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تمتد إلى أنحاء أخرى من العالم. القهوة هي أحد المنتجات التي تربط بين الناس في أغني البلدان وأفقرها، فهي تستهلك بكميات هائلة في المجتمعات الغنية ولكنها تزرع وتنتج في المجتمعات الفقيرة (إفريقيا وأمريكا اللاتينية). القهوة تحتل المرتبة الثانية بعد النفط باعتبارها السلعة الأكثر تبادلا في التجارة العالمية. رابعا، فعل شراء القهوة واحتساءها يدخل ضمن منظومة ثقافية للاستهلاك وطريقة في العيش. تناول القهوة منتشر بين سكان الجزء الغربي من الكرة الأرضية، في حين أن سكان الجزء الشرقي يفضلون عليها الشاي. إن القرارات التي يتخذها المستهلكون حول نوع القهوة ومصادر إنتاجها (بتفضيل ماركة معينة على حساب أخرى) يمثل خيارات لأسلوب الحياة. خامسا، القهوة واحدة من المنتجات التي توجد في صلب السجالات الراهنة حول العولمة، التجارة الدولية، حقوق الإنسان (عمالة الأطفال) وحماية البيئة. مع انتشار القهوة وتزايد شعبيتها، أصبحت منتوجا "مُسـيّسا". إن هذا المثال حول "تناول فنجان القهوة" وعلى بساطته، يـبين لنا أن وراء كل -واجهـة إجتماعية- سلوك بسيط أو معقد يقوم به الفرد أو الجماعة، هناك دائما اعتبارات سوسيولوجية (اجتماعية اقتصادية ثقافية سياسية فكرية....) في الخلفية. عدم رؤيتنا لها لا يعني أنها غير موجودة أو غير مؤثرة. الخيال السوسيولوجي يتيح لنا إدراك أن الكثير من الأحداث والظواهر والسلوكات الاجتماعية إنما تعكس قضايا أوسع، أهم أعقد بكثير. البطالة مثلا لها أبعاد عدة. بعد اقتصادي مرتبط بقانون العرض والطلب في سوق العمل. بعد سياسي يتمثل في سياسات التشغيل (خلق مناصب شغل) لدى الحكومة والأحزاب السياسية. بعد اجتماعي خاص بآليات التضامن والتعاون الاجتماعيين للحد من الآثار السلبية للبطالة. بعد نفسي يتعلق بالآثار النفسية للبطالة على الشخص الذي يعاني منها. بعد ثقافي حول ما يمثله العمل في ثقافة المجتمع ...الخ. فهم واقع البطالة لن يتحقق إلا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كافة هذه الأبعاد. الجدول التالي يحوي قائمة -غير مكتملة- لبعض فروع علم الاجتماع ومجالات الدراسة فيه. النظرة الأولى على الجدول تبين التنوع الواضح في الدراسات السوسيولوجية. يرجع ذلك إلى التنوع الذي يميز واقع المجتمعات، فهي تشتمل على الاقتصادي، السياسي، الثقافي، الديني، التربوي....إلخ حـول العمـل/الاقتصاد علم اجتماع العلاقات الصناعية علم اجتماع المهن علم اجتماع العمل علم اجتماع الجمعيات والنقابات علم اجتماع المنظمات علم اجتماع المؤسسة علم اجتماع البطالة علم الاجتماع الاقتصادي حـول العلاقة فرد/مجتمع علم اجتماع الفرد علم اجتماع الطبقات الاجتماعية علم اجتماع التغير الاجتماعي علم اجتماع العائلة علم اجتماع الجندر (النوع= النساء/الرجال) علم اجتماع الهوية علم النفس الاجتماعي علم اجتماع التنشئة الاجتماعية حـول طـرق العيـش علم الاجتماع الحضري علم الاجتماع الريفي علم اجتماع الفقر والتهميش علم اجتماع الاستهلاك علم اجتماع الثقافة علم اجتماع الفن علم اجتماع الرياضة علم اجتماع الإعلام والاتصال علم اجتماع الحياة اليومية علم اجتماع التربية والمدرسة حـول الأفكار والمعتقدات علم اجتماع الديانات علم اجتماع القيم علم اجتماع المعرفة علم اجتماع الفرق الدينية حـول المـواطنـة علم اجتماع السياسة علم اجتماع الانتخابات لماذا ندرس علم الاجتماع؟ لأن علم الاجتماع يهتم بدراسة ظواهر نابعة من الواقع الاجتماعي المعاش (الانحراف، التهميش، العمل، الفساد، العائلة، العنف، الاستهلاك…)، يتشكل لدينا انطباع بقرب هذا العلم ومواضيعه من حياتنا. إلا أنه يجب التأكيد على أن الفهم الموضوعي والدقيق لهذا الواقع الاجتماعي لا يمكن أن يتم دون معرفة سابقة بماهية علم الاجتماع من ناحية موضوعه ومنهجه ورواده وطرق ممارسته. إن علم الاجتماع بطبيعته مصدر للتنوير يعود علينا بثلاث فوائد على الأقل:
1. زيادة معارفنا بالعالم الذي نعيش فيه، عبر صياغة أحكام ومواقف موضوعية أكثر. فمجرد الانتماء إلى مجتمع ما لا يكف لمعرفته. علم الاجتماع بتجاوزه للمسلمات واختراقه للظاهر من الواقع الاجتماعي وبكشفه عن المسكوت عنه وخرقه للطابوهات، من شأنه أن يساهم في تشكيل رؤية نقدية لدينا حول العالم والمجتمع اللذين نعيش فيهما.
2. التنوير الذاتي، بزيادة معرفتنا بذواتنا وتعميق فهمنا لأنفسنا. فكلما زادت معرفتنا بالبواعث الكامنة وراء أفعالنا وخياراتنا وتعمق فهمنا لأساليب عمل المجتمع الذي نعيش فيه، تعززت مقدرتنا على التحكم والتأثير في مستقبلنا. 3. تنوير من في أيديهم السلطة (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الدينية، الثقافية...) ومساعدتهم على طرح الأسئلة المناسبة واختيار المقاربات الناجعة في تسييرهم لشؤون المجتمـع. فالسياسات والخطط التي لا تنطلق من وعي مباشر بمسارات حياة الناس الذين تستهدفهم لا تتوفر على أي فرصة للنجاح. نشأة علم الاجتماع: خلال القرنين 18 و19، وفي سياق تميز بتحولات اقتصادية سياسية واجتماعية عميقة، كان لمفكرين أمثال: أوجست كونت Auguste Comte (1798-1857)، أليكسيس دو توكفـيل Alexis de Tocqueville(1805-1859)، كارل ماركس Karl Marx(1818-1883)، إميل دوركايم Emile Durkheim(1858-1917) وماكس فيبر Max Weber(1864-1920) أن انشغلوا بطبيعة المجتمع الناشئ. ليكونوا بهذا قد وضعوا أسس تساؤل سوسيولوجي يتجاوز مرحلة التفكير الاجتماعي الأخلاقي التي سادت الفكر الفلسفي الإغريقي الإسلامي والآسيوي، إلى تفكير أكثر علمية وموضوعية في أسباب ونتائج الظواهر الاجتماعية. سيـــاق خاص: إن كان الأمر يتعلق بسياق الأحداث أو بالسياق الأيديولوجي، فلقد عرفت فرنسا وأهم البلدان الأوربية (ألمانيا وانجلترا) في القرن 18 وبالخصوص في القرن 19 تغيرات عميقة. إنه واقع جديد زعزع دعائم النظام الاجتماعي القديم ومهّد لظهور إشكالية سوسيولوجية خاصة، تتعلق بقضايا الرباط الاجتماعي (التضامن الاجتماعي) وعوامل التغير الاجتماعي. أ. سياق الأحداث: عادة ما يقال عن علم الاجتماع أنه "وليد الثورات". المقصود بالثورات في هذا الإطار هو الثورة الفرنسية على الصعيد السياسي والثورة الصناعية على الصعيد الاقتصادي. فبإعادتهما صياغة النظام الاجتماعي القديم أفرزتا رهانات جديدة متعلقة بالمجتمع الجديد قيد البناء، وكذا العديد من المخاوف الناجمة عن انتشار العديد من المشكلات الاجتماعية الملحة مثل البطالة، الاكتظاظ، الدعارة، الإدمان على الكحول، البؤس الحضري، العنف...الخ. • على الصعيد السياسي: الثورة الفرنسية (1789) وعبر الأفكار التي سوقت لها، والمبادئ التي نادت بها، وعبر الإصلاحات التي نفذتها، تكون قد دمرت بعض العقائد والمبادئ وكذا التوازنات السياسية والاجتماعية التي كان يقوم عليها النظام الاجتماعي القديم. مثال: وقف العمل بالقانون الإقطاعي، إقرار بيان حقوق الإنسان والمواطن، مفهوم المواطنة، ظهور تشكيلة اجتماعية جديدة أكثر ليونة/ميوعة، أصلا قانون الأسرة (قانون 1792 الذي يجعل من الزواج عقد مدني) ما أوجد أشكال عائلية جديدة. • على الصعيد الاقتصادي: الثورة الصناعة ولدت الرأسمالية الحديثة، التي بإرسائها لقواعد نظام إنتاج جديد أحدثت تحولات عميقة في النسيج الاجتماعي ومكوناته. بعض هذه التحولات قادت إلى اختلالات اجتماعية أعطت أهمية كبيرة لما صار يسمى "المسألة الاجتماعية". المسألة الاجتماعية مصطلح ظهر نهاية القرن 19 ويحيل إلى المشاكل والنزاعات الحاصلة في المجتمع الصناعي الجديد. مثال: تزايد عدد المدن الصناعية (مانشيستر، ليون...) وعُـدّتها من البؤس الفقر والمساكن الرديئة. مثال آخر: تحول شرائح عريضة من أفراد المجتمع إلى عمال كادحين. فمع ظهور المصانع وانتشار الآلات، عمّ العمل بالأجر، ما أنتج طبقة اجتماعية جديدة: طبقة العمل، التي تعرف تدهورا لأوضاعها المعيشية والمهنية. في المحصلة، يمكن الجزم أن نتائج الثورتين الفرنسية والصناعية شكلتا قطيعة واضحة مع الوضع السابق. لقد أعلنتا نهاية المجتمع التقليدي المؤسس على العائلة، الأرض، المجموعة القروية والكنيسة. فكان لنظام اجتماعي جديد أن يتأسس، ولنماذج جديدة من التضامن الاجتماعي أن تظهر، ولمفهوم جديد للعيش المشترك أن يُفكـر فيه. هذه هي الأهداف التي حددها رواد ومؤسسي علم الاجتماع وسعوا إلى بلوغها. ب. السياق الأيديولوجي: على المستوى الفكري، امتاز القرنان 18 و19 بارتقاء مكانة العقل والاحتكام إليه من جهة، وبهيمنة بعض الأفكار السياسية من جهة أخرى. المؤسسين الأوائل لعلم الاجتماع تؤثروا إلى حد بعيد ببعض هذه الأفكار، الأمر الذي سيظهر في أعمالهم وينعكس على تصورهم للعلم الجديد. • ارتقاء مكانة العقل: القرن 18 يعتبر قرن الأنوار. من بين فلاسفة الأنوار نجد: فولتير Voltaire، روسوRousseau ، مونتيسكيوMontesquieu ، كانطKant ... هؤلاء المفكرين وضعوا العقل فوق كل شيء، أوكلوا له سلطة مطلقة تتجاوز حتى سلطة المقدس (سلطة رجال الدين والكتب المقدسة). بالنسبة لهم الإنسان يجب أن يكون مركز المعرفة ومصدرها، كما تظهره مقولة كانط "فلتكن لديك الشجاعة والجرأة لتستخدم فكــــرك". هذا التوجه العقـلاني أنتج في المجتمعات الأوربية انجذابا قويا نحو العلم والمعرفة. ليكون عصر التنوير مناسبة لظهور العلموية والفلسفة الوضعية. العلموية (Scientisme) نزعة تقوم على الإيمان بالقوة الكبيرة للعلم وقدرته على حـلّ كل مشاكل الإنسانية. هي كذلك اعتقاد فلسفي يؤكد أن العلم يتيح لنا معرفة كلية للأشياء الموجودة في الكون، وهي كافية لتحقيق الطموح الإنساني. الوضعية (Positivisme) عقيدة فلسفية طورها أوغست كونت والتي تعتبر أن المعرفة الوحيدة (أو السبيل الوحيد للمعرفة) هي ملاحظة الوقائع والتجربة العلمية. رواد علم الاجتماع الأوائل انظموا إلى هذا الإيمان بالعقل والعلم. فحرصوا على تطبيق المبادئ العقلية للعلوم في تحليلهم للظواهر الاجتماعية. • تأثير الأفكار السياسية: من كل الأفكار السياسية التي ظهرت ونمت في القرنين 18 و19، يمكن القول أن "الفكر المحافظ" (Conservatisme) هو الذي على علاقة أقرب بميلاد علم الاجتماع. الفكر المحافظ تيار أيديولوجي/سياسي يستنكر الاختلالات الاجتماعية الناتجة عن الثورتين الفرنسية والصناعية. العديد من مؤسسي علم الاجتماع تأثروا بهذه الأيديولوجية (خاصة دروكـايم). بالعودة إلى تاريخ الأحداث والأفكار يتبين لنا أن علم الاجتماع ظهر في سياق تحولات محفزة على التساؤل السوسيولوجي. إذن ليس صدفة كون أساسات التحليل السوسيولوجي ظهرت خلال القرن 19، وكون المفكرين المعاصرين لهذه التحولات هم من سيضع قواعد علم اجتماعي جديد. الـمـؤســســـون: أ/.. أوغست كونت (1798-1857) Auguste Comte: هو من سمىّ العلم الجديد بعلم الاجتماع، فمن اللغة اللاتينية استمد مفردة socio التي تعني المجتمع، ومن اللغة الإغريقية مفردة logos أي العلم. فكان علم الاجتماع: علم المجتمع أو علم دراسة المجتمع. أوغست كونت يعد أيضا من أوائل من قال بإمكانية والحاجة لخلق علم اجتماعي جديد (سبقه إلى ذلك عبد الرحمان ابن خلدون 1332-1406). كونت هو مؤسس " الفلسفة الوضعية". حسب رأيه، كل اكتساب للمعرفة يجب أن يتحقق انطلاقا من ملاحظة للواقع ليتم فيما بعد صياغة مقولات نظرية. ملاحظة الواقع يجب أن تسبق كل اقتراح نظري. ليعارض بذلك أولئك الذين يضعون مقدمات نظرية دون مطابقتها للواقع. حسب كونت علم الاجتماع عليه التحلي بهذا الطابع الوضعي والعلمي، عليه أن يكون قبل كل شيء علم ملاحظة (une science de l’observation). عليه أن يطبق نفس المنهجيات العلمية الصارمة التي تطبقها العلوم الطبيعية: الفيزياء أو الكيمياء. كونت أوكل لنفسه مهمة إنهاء صياغة العلوم الوضعية (تلك التي تعتمد على الملاحظة والتجربة) وذلك عبر تأسيس آخر وأعقد علم وضعي، وهو ذلك الذي يختص بدراسة الظواهر الاجتماعية، فكان ما أسماه علم الاجتماع، وهي التسمية التي فضلها على تسمية أخرى: الفيزياء الاجتماعية. إذن بالنسبة لكونت علم الاجتماع يمثل العلم الذي يختم تطور ومسار العلوم الوضعية. هذا العلم الجديد برأيه ينقسم إلى حقلين كبيرين للدراسة: - الستاتيكا الاجتماعية (الثبات الاجتماعي): دراسة محددات وعوامل النظام و التماسك الاجتماعي. - الديناميكا الاجتماعية (التغير الاجتماعي): دراسة تطور الإنسانية والقوانين التي تسير نمو المجتمع الإنساني وتحكم تغيره. لم يمكّن لكونت من المساهمة في مضمون الستاتيكا الاجتماعية، لكنه في المقابل انصب على دراسة الديناميكا الاجتماعية بحديثه عن قانون المراحل الثلاث التي مر بها التفكير الإنساني: 1. المرحلة اللاهوتية: أين تم اعتبار الظواهر منتجات لأفعال مباشرة لقوى فوق الطبيعة، وأن لا دخل ولا سيطرة للإنسان عليها. 2. المرحلة الميافيزيقية: القوى فوق الطبيعية عوضت بأفكار وتصورات مجردة، مثل: الحرية، المساواة، العقل، الفرد... التي جعلت البشر ينظرون إلى ظواهر المجتمع بشكلها الطبيعي. 3. المرحلة الوضعية: يميزها البحث عن القوانين التي تحكم الظواهر باستعمال التفكير العقلي والتجريب. هذه المرحلة ميزتها الاكتشافات والاختراعات العلمية (نيوتن، كوبرنيك، غاليلي...). حسب كونت، المرحلة الوضعية هي مرحلة حتمية، نهائية ودائمة. هذه النظرة التطورية للفكر الإنساني ستعرف فيما بعد انتقادات كثيرة. خاصة وأنها تنطبق فقط على وضع التفكير الإنساني في أوربا وليس في العالم كله. ب/.. أليكسيس دو توكفيل (1805-1859) Alexis de Tocqueville: على الرغم من أن توكفيل عاصر حياة كونت، إلا أن أفكاره ودراساته لم تحض بنفس شهرة أفكار ودراسات الأخير. السبب، دوركايم ا اعتمد على أعمال كونت وليس على أعمال توكفيل. مـُنظّـر الديمقراطية: أمريكا... نموذج المجتمع الديمقراطي: يعتبر توكفيل قبل كل شيء مفكر الديمقراطية. في كتابه المعنون بـ"حول الديمقراطية في أمريكا"، يتساءل حول الظروف الخفية لاستمرار ونجاح الديمقراطية الليبرالية وفق ما هي عليه في الولايات المتحدة الأمريكية؟ إن المجتمع الأمريكي يمثل بالنسبة إليه النموذج الناجح للديمقراطية، بسبب الأسباب التاريخية (مساحة جغرافية واسعة و "خالية" من كل تنظيم اقتصادي وسياسي)، أسباب ثقافية (النزعة إلى الحرية، النزعة إلى التكاتف والتعاون، روح الجماعة، تجانس في الآراء، حرية صحافة) وأسباب مؤسساتية (لامركزية إدارية للسلطة، النظام الفيدرالي). الديمقراطية والمساواة: توكفيل يرى الديمقراطية والمساواة على ارتباط قوي، إذ لا ديمقراطية بدون مساواة. ففي النظام الديمقراطـي الناجح حيث لا يتم انتقال المكانات والأدوار الاجتماعية وراثيا (كل المكانات والأدوار الاجتماعية متاحة للجميع)، المساواة الاجتماعية هي القاعدة. بمعنى أخر، وفي غياب حدود مانعة بين الطبقات الاجتماعية الحراك الاجتماعي ممكن. الحراك الاجتماعي (Mobilité sociale): انتقال الفرد أو الجماعة من طبقة أو من مستوى اجتماعي اقتصادي معينين إلى طبقة أو مستوى اجتماعي اقتصادي آخرين، بحيث يرتبط بهذا الانتقال تغير في مستوى المكانة الدور والدخل، وقد يكون هذا الانتقال إلى أعلى أو إلى أسفل. في المحصلة، هذه "السيولة" الاجتماعية تكرس تسـاوٍ في ظروف العيش، أي عملية تسوية لمعدلات الدخل وطرق العيش. أخطار الديمقراطية: توكفيل بوصفه ملاحظ ناقد للأنظمة السياسية يرى بأن الديمقراطية على الرغم من إيجابياتها ليست نظاما كاملا. لذا فهو يحذر من أربع أخطـار تتضمنها: • الفردانية: على اعتبار المساواة تجعل الناس متساوين أمام بعضهم البعض دون رباط مشترك يجمعهم، فإن هذا من شأنه أن يشجع البعض منهم على تبني سلوكات أنانية (فردانية)، تعم الجميع فيما بعد، ما يعتبر خطرا على الجسم الاجتماعي وعلى تماسكه. • الفوضى: لما لا توضع حدود لحريات الناس، يمكن أن يؤدي ممارستهم لها إلى الفوضى والتعدي على حريات الآخرين. • الاستبداد الديمقراطي: في المجتمعات الديمقراطية، الشعب يختار ممثلين له مهمتهم ممارسة السلطة السياسية. هذا المبدأ في الديمقراطية التمثيلية يمكن أن يحول الناس بعد مدة معينة إلى مواطنين غير فاعلين (الامتناع عن الانتخاب) وجعلهم في موقف يشبه موقف العبيد. • استبداد الأغلبية: لما يكون مبدأ الأغلبية هو من يحدد قواعد عمل الديمقراطيات، فـإن "الرأي العام" هو من يقود العالم، هكذا ونتيجة العودة دائما إلى الرأي العام نكون قد فقدنا جزءا من هويتنا الشخصية لصالح سلوكات ومواقف مطابقة لسلوكات ومواقف الأغلبية. بإمكان الأغلبية على هذا النحو أن تسحق الأقلية وتقلل من مساحة الحرية الشخصية. جـ/.. كارل ماركس (1818-1883) Karl Marx كارل ماركس يعتبر في نفس الوقت: فيلسوفا، رجل سياسة، عالم اقتصاد، عالم اجتماع، مؤرخ ومفكر. ومن غير الممكن حصره في ميدان علمي واحد. لذا فليس مشروعا لنا اعتباره فقط عالم اجتماع، لكن يمكننا التأكيد على أنه بفكره وأعماله كان أحد المساهمين الأساسيين في نشـأة علم الاجتماع. ماركس عايش ميلاد المجتمع الرأسمالي، شهد نمو المصانع وتوسع الإنتاج وما نجم عن كليهما من مظاهر التفاوت وعدم المساواة. ماركس يرى أن هناك عنصرين جديدين/أساسيين أتى بهما نظام الإنتاج الرأسمالي: - أولا: رأس المال (le capital) وهو مجموع الأصول والموجودات -بما فيها المال والمعدات وحتى المصانع- التي يجري استخدامها أو استثمارها لإنتاج أصول جديدة في المستقبل، ويسمي هذه العملية "تراكم رأس المال". رأس المال في النظام الرأسمالي هو في يد فئة قليلة يسميهم ماركس بالرأسماليين والذين ينتمون اجتماعيا لطبقة البرجوازية. - ثانيا: العمل بأجر (le salariat) ويشير إلى قطاع العمال الذين لا يملكون، لا وسائل الإنتاج ولا وسائل العيش، يملكون فقط قوة عملهم، لذا فهم مضطرون إلى أن يطلبوا الاستخدام من أرباب رأس المال (الرأسماليين/البرجوازيين) مقابل أجـر. العمال يشكلون غالبية أفراد المجتمع، ولأنهم يشتركون في طريقة الكسب (الأجر وليس الملكية) ولديهم نفس المصالح فهم يعتبرون الطبقة الثانية التي يتكون منها المجتمع: طبقة العمال أو البروليتاريا. القول بالحتمية المـادية / الاقتصادية: بالنسبة لماركس كل مجتمع يتكون من عنصرين أو بنيتين: "بنية تحتية/مادية/اقتصادية" من جهة، وبنية "فوقية/لامادية/اجتماعية" من جهة أخرى. البنية التحتية تجمع القواعد التقنية والاقتصادية للمجتمع، والبنية الفوقية تشمل على النظام والمؤسسات السياسية الاجتماعية القانونية الفلسفية الثقافية الشفوية والدينية للمجتمع. في منظومة الفهم والتحليل الماركسية، البنية التحتية (النظام الاقتصادي، نظام الإنتاج، نمط ملكية رأس المال) هي من تـحدد البنية الفوقية (نوع النظام السياسي والاجتماعي، نوع الثقافة والأفكار والمعتقدات والمواقف). بعبارة أخرى المجال الاقتصادي يحتل مكانة مركزية في فهم الظواهر السياسية الإنسانية والاجتماعية. مقولات ماركسية - من يملك يسيطر. من يملك رأس المال (المال، المصنع، الآلات...) يسيطر ويتحكم في من لا يملكه. هي سيطرة لا تقتصر فقط على المجال الاقتصادي/المادي بل تتجاوزه إلى سيطرة اجتماعية سياسية ثقافية وأيديولوجية. - فكر الطبقة المسيطرة هو في كل الأزمان الفكر المسيطر في العالـم. - في الأسرة، الرجل يلعب دور البرجوازي والمرأة دور البروليتـاري. - هناك طريقة واحدة فقط لقتل الرأسمالية، الضرائب ثم الضرائب ولا شيء غير الضرائب. - الأفكار ما هي إلا أشياء مادية منقولة ومترجمة في عقل الإنسان. - ليس وعي الناس هو من يحدد وجودهم، بل إن طبيعة وجودهم هي من تحدد نوع وعيهم. - إنتاج الأفكار والتمثلات مرتبط أساسا بالنشاطات والتبادلات المادية بين البشر. إنها لغـة الحياة الواقعية. - الملكية الخاصة جعلت منا أغبياءً ومحدودي العقل، إلى حد اعتقادنا بأننا لا نحوز الأشياء إلا إذا ملكناها. الطبقات الاجتماعية في صلب التحليل: تحليلات ماركس انصبت على دراسة المجتمعات الطبقية (خاصة على المجتمعات الرأسمالية)، التي تنفرد بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. بالنسبة له المواجهة بين الطبقات الاجتماعية (الصراع الطبقي) يعتبر محرك أساسي للتاريخ، إذن للتغير الاجتماعي. التعارض بين الطبقات الاجتماعية هو أحد الخصائص الأساسية للمجتمع الرأسمالي. ماركس يفرق بين طبقتين اجتماعيتين: طبقة الرأسماليين (البرجوازية) وطبقة العمال (البروليتاريا). هاتان الطبقان تدافعان عن مصالح متعارضة، لكي تحافظ كل واحدة على مصالحها وتحميها أو تثمنها فهي مجبرة على الدخول في مواجهة صراعية مع الطبقة الأخرى. هذا الصراع الطبقي يؤدي حسب ماركس إلى ثـورة تكرس ديكتاتورية وحكم البروليتاريا أو المجتمع الاشتراكي، الذي وبعد مدة يترك المجال لمجتمع بدون طبقات: المجتمع الشيوعي. من ما سبق، واضح جدا المكانة المركزية التي يوليها ماركس للصراعات الاجتماعية. إنـها عامل تغيير وتجديد اجتماعيين وليست مؤشر فوضى اجتماعية (كما يرى دوركايم). الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تميز المجتمع الذي ينقسم بين من هم ملاك للوسائل المستعملة في تصنيع السلع والخدمات (الرأسماليين في النظام الرأسمالي)، وبين من لا يملكون لا الآلات ولا المصانع ولا الأموال، يملكون فقط قوة العمل التي يبيعونها للأوائل (الرأسماليين) مقابل اجر، إنهم العمال.

ملاحظة: نرجوا منكم المشاركة والمساهمة في إثراء هذه المدونة بمشاركاتكم العلمية والتي تم وضعها خصيصياً تحت تصرف جميع طلبة العلوم الانسانية والاجتماعية.
مع تحيات الباحث:     أ-    دغبوج وليد 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق